تزوّجت من غريب الكون
تزوّجت من غريب الكون |
بعد أنا أضحيت شابةً يافعة ، ناضجة ، تشارف على الثلاثين ..
إنتهيتُ من دراستي ، و إلتزاماتي ، و نضوج عقلي ، و تحكّم بمشاعري ..
عاركتُ الحياة و عاركتني ..
لعبتُ معها ، و لعبتْ بي ..
ذات يوم تعرّفت إلى أحدهم ، لم أقع بغرامه ، بل حلّقت بعدما لمست حنانه ..
كان رجلاً .. رجلاً حقيقيّاً ..
و بالمقابل كنت دائمة الخوف و التردد .. أتذكّر جيداً .. في يوم الزفاف .. كل ثانية تمضي ، ينتابني شعور التراجع و الهروب ..
عرض عليَّ الزواج .. و تمت كل المراسم و المعروف و المألوف و كل تلك التريبات الاجتماعية ..
و في ذلك اليوم ..
أتذكر الحبيب اللعين ، اتصلتُ به بما لا يزد عن ألف مرة ، كلمة واحدة منه كانت ستنهي كل شيء ، و أعود مجدداً لدوامتي التي دمرتني ..
رنة .. رنتان .. ثلاث .. أربع ..
ليجبني المجيب الآلي .. " هذا الرقم هي موضوع بالخدمة بعد .. نرجوا التأكد منه "
لعنته ، و لعنت هذا المجيب الأحمق الذي يتحدّث اللغة العربية و لا يفقه قواعدها و أساسيتها ..
رميتُ هاتفي بعيداً عني ، و أطلقت عنان دموعي الخائفة و المرتبكة ..
حتى أنني حاولت تمزيق الفستان .. لكنَّ الأمر لم يفلح ..
حاولت تجنب إتصالات رجلي لعله يلغي الزفاف .. لكنَّ الأمر لم يفلح ..
حاولت العبث بشعري المصفف الجميل ، لعلّي أفسده .. لكنَّ الأمر لم يفلح ..
حاولتُ إخراج كلمة " لا " لأبي و أمي .. و لكنها ... لن تخرج ...
و أنا بهذا الفستان الثقيل ، و المكياج الخفيف ، و الكعب العالي ..
لم أعرف ماذا عليَّ أن أفعل ...
دون أدنى مقاومة ، أو تفكير ..
سجدتُ على الأرض ، و قلتُ " يا رب " ..
واضعة بها كل حزني و ضياعي و تهوري و يأسي و خذلاني و خيباتي و فجواتي ...
واضعة بها .. كل آمالي المتبقية ..
فأنا لستُ راغبةً بخوض أي تجربة مؤلمة مهما كانت صغيرة .. فمَ بالكم بالزواج ؟؟!!
و حتى هذه اللحظة .. لا أعي من دفع الأمور للوصول إلى هنا .. دون حبٍّ معلنٍ و صريح ..
ساعة واحدة لتأتي سيارة مزينة ، و تأخذني إلى فارسٍ مجهول ..
أعصابي تزداد تصلباً ، و صوتي يكاد أن يختفي ، إرهاقي بات ظاهراً على جبيني ...
و بعد هذا الصراع الطويل .. و أنا جالسة ، غفت عيني لبضع دقائق .. كانوا سبباً للحياة ..
رأيتُ تلك الروح العذبة ، ملاكي البشري ، تقول لي :
أنت حيث قلبك ..
و إستيفظت على سعادة أجهلها ، و راحة أعلنها ..
و قبل خروجي من باب المنزل ، سألني والدي للمرة الأخيرة :
هل أنت واثقة ؟!
بإبتسامة الرضى و السكينة : أجل ..
اليوم ..
و بعد عشر سنوات ..
نجلس معاً في صباحنا الجميل ، على أنغام غيتاره العجيب .. و بقربنا فنجانٌ من القهوة لكلينا ..
أنظر له بكلِّ الحبِّ المجموع و المتبقي في هذا العالم ..
و بعد دقيقتان أو ثلاثة ، يتوقف عن العزف ، ليلتقط أوراقي و يهمَّ بقراءة المكتوب ..
ليعيد سؤاله السنوي : أين ذهبت تلك النصوص المؤلمة ؟ و الأوجاع المتفاقمة ؟
و كأنه يحاول تذكير نفسه دائماً بإجابتي المعهودة :
لقد أشُبعت بهيامك ، و أعلنت استقالتها بعد قدومك ..
و الحقيقة التي لا يعلمها .. أنني توقفت عن الكتابة ..
و لكن ليس ذلك التوقف السلبي ، بل العكس تماماً ..
فلم أعد أكتب سوى عنه ، و له ، و لحياته .. و حياتنا ..
و حتى عند اختراع و إبداع نصٍّ من خيالي ، يكاد لا يخلو البتة من تفاصيله ، من عشقه ، من طيبته و رقته ، من جماله الفتّان ..
يكاد لا يخلو من رجلي الحقيقي ...
و تفاصيل و تفاصيل و تفاصيل ...
و كأنه هاربٌ من آخر صفحة روايتي المفضلة ..
و كأنه المنقذ الوحيد لفلمٍ استحوذ عليه الظلم و الدمار ..
عمري كله لا يسع شكري و امتناني لله بعدما جمعني به ، و لم يستجب لوساوسي ..
لم يكن بإستطاعته صف الكثير من الجمل الغزلية ، لكنه كان في كل دقيقة حتى و هو بعيدٌ عني .. يحتفظ بحبي و يعلن عنه ..
نادراً ما يخبرني بعشقه المكنون .. لكنه واظب طيلة هذا العمر .. على أفعالٍ تجعلني أتقين .. أنَّ الجنة ها هنا .. بين أحضان الكون ..
بقلمي شهد بكر ✒️
إرسال تعليق
كُن مشرقاً بحروفك، بلسماً بكلماتك