|
الغوص في التاريخ بحثاً عن حقيقة هرمس والهرمسية تصميم الصورة وفاء المؤذن |
تعتبر شخصية "|هرمس|" من أكثر الشخصيات غموضاً وغرابةً في التاريخ، حتى نُسبت إليه أمورٌ كثيرة، وتسابقت الأمم إلى نسبه إليها، فأصبح رمزاً من رموز العلم والمعرفة والحكمة، ونشأ عن ذلك أن مثلث الدين والفلسفة والعلوم أصبح يسمى بمثلث الهرمسية، فأصبحت منظومة الهرمسية تعني خلاصة معارف وعلوم العالم القديم بدءاً من العراق وصولاً إلى مصر واليونان، وامتزجت فيها الحكمة بالأديان والأساطير، فضاعت أصولها القديمة، ثم أُعيدت صياغتها في العصر الهلنستي عندما اختلطت ثقافة الغرب بتراث الشرق، فأصبحت الهرمسية مصدر إلهامٍ للكثير من المفكرين والعلماء والباحثين حتى الآن.
من هو هرمس وما هي حقيقته
أصبحت الهرمسية ملهمةً للكثير من المنظمات السرية فنجد أثرها واضحاً في |الماسونية| وغيرها، وبخاصةٍ شخصيتها الأساسية "هرمس" الذي يعتبر أكثر الشخصيات غموضاً في التاريخ على الاطلاق، لدرجة أن معظم الأمم حاولت نسبه إليها، فقد اعتبره اليونانيون الإله "هرمس" نفسه، واعتبره المصريون نفس الإله "تحوت" إله الحكمة أحياناً، وأحياناً أخرى اعتبروه المهندس الشهير "إمحوتب" مصمم هرم زوسر المدرج، أما اليهود والمسيحيون فيعتبرونه النبي أخنوخ المذكور في الكتاب المقدس، بينما يعتبره المسلمون النبي "إدريس"، أما في الشرق فقد اعتبره المندائيون نفس "بوذا سيف" صاحب هياكل الكواكب، بينما اعتبره الفرس إله الخير الزرادشتي "أهورامزدا".
ما هي متون هرمس
لكي نتعرف أكثر على شخصية هرمس ونحاول معرفة حقيقتها، فيجب أولاً العودة إلى الكتاب الشهير "|متون هرمس|"، وهو عبارةٌ عن ثمانية عشر نصاً، منها سبعة عشر نصاً مكتوباً باللغة اليونانية، ونصٌّ واحدٌ مكتوب باللغة المصرية القديمة، ويقول علماء التاريخ بأن جميع تلك النصوص قد كُتبت في القرن الثالث الميلادي في مدينة الإسكندرية التي شكّلت محور العالم الهلنستي في ذلك الزمن، وكانت ملتقى العلوم والثقافات بين الشرق والغرب.
مدونة رؤيا هرمس وأهميتها
إن متون هرمس هي خليطٌ من النصوص العلمية والفلسفية والدينية، ومن أشهر تلك النصوص المدونة الأولى المعروفة باسم "|رؤيا هرمس|"، وتعرف أحياناً باسم "نص poimandres"، وتكمن أهميتها في أنها تشكّل الجانبين الديني والفلسفي من الهرمسية، فهي تتحدث عن حوارات هرمس مع الإله الأعلى، وهي تعرض رؤية هرمس لكيفية خلق الكون، حيث تفترض وجود إلهين هما الإله الأعلى "بويماندرس" المعروف بالعقل الأول الذي لا يحدّه وصف ولا يليق به اسم ولا تدركه العقول، وهو متعالٍ عن الكون ولا يتدخل به، وصدر عنه عالم النور والكائنات النورانية، والذي خرج منه فيما بعد عالم الظلام وكائناته، أما الإله الثاني فهو الإله الصانع الذي خلق الكون والإنسان، وبذلك تقوم رؤية هرمس على مبدأ المثنوية أي أن هناك عالمان هما عالم النور وعالم الظلام.
نظرة الهرمسية إلى الكون ومستويات الوجود
ترتكز الهرمسية على مبدأ آخر هو مبدأ وحدة الكون، حيث أن الوجود بأكمله وحدةٌ واحدةٌ متكاملةٌ ومتصلةٌ ببعضها البعض، على جميع المستويات، وقد ظهر هذا المبدأ بكل وضوحٍ في اللوحة الهرمسية الشهيرة المعروفة باسم اللوحة الزمردية، وهي لوحةٌ منسوبةٌ إلى هرمس، ورد ذكرها في الكثير من الكتب التي تحدّثت عن الهرمسية، وفيها عبارةٌ شهيرةٌ تقول "كما في الأعلى كذلك في الأسفل"، والتي تعتبر من أشهر المبادئ الهرمسية في إشارةٍ لوحدة الكون وأن كل ما قد يحدث في أي مستوى يؤثر في بقية المستويات.
|
الغوص في التاريخ بحثاً عن حقيقة هرمس والهرمسية تصميم الصورة وفاء المؤذن |
إلى جانب أهمية المدونة الأولى من متون هرمس في توضيح الهرمسية، و|أسطورة الخلق| الخاصة بها، فإن أهميتها الثانية تأتي من توضيحها لشخصية هرمس المثيرة للجدل، فهي تظهره كوسيطٍ بين الإله الأعلى والإنسان، فهو قد تحاور مع الإله الأعلى وعرف منه حقيقة الوجود ثم نقلها إلى البشر، وبدأ يدلهم على طريق الخلاص عبر تحرير الجسد البشري من قيوده المادية، وتحرير الروح والنفس من سجنها الجسدي، وهذا ما يعرف بمبدأ |العرفان|.
جوانب أخرى لشخصية هرمس
لا تقتصر شخصية هرمس على جانبها الإلهي فقط، فتظهر في بقية النصوص الهرمسية جوانب أخرى من شخصيته، فهو النبي والملك الذي يعلّم البشرية فنون الحكمة والمعرفة وبقية العلوم، ومن هنا جاء اللقب الشهير لهرمس وهو "هرمس مثلث العظمة"، لأنه جمع بين الملك والنبوة والحكمة، وكل ذلك نجده في المدونة الأولى من متون هرمس.
الجانب العلمي في الهرمسية
توضّح بقية النصوص الهرمسية الجانب الثالث للهرمسية، وهو الجانب العلمي، وهو معروفٌ باسم "|مثلث الحكمة الهرمسية|"، ويتكون من علوم الخيمياء والسيمياء والتنجيم، ففي مجال الخيمياء، تُظهر نصوص هرمس كيفية تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينةٍ كالذهب، وكيفية تحضير إكسير الحياة الذي يعالج الأمراض جميعاً، وكيفية الحصول على حجر الفلاسفة الشهير، وغير ذلك من أفكار ومواضيع الكيمياء القديمة "|الخيمياء|".
ما هي السيمياء وما هو التنجيم
تختص |السيمياء| بالعلوم الإلهية، وهي مجموعةٌ من الطقوس المخصّصة من أجل تحضير الأرواح، والتواصل مع كائنات العالم الآخر، واكتساب القدرات الخارقة، أما التنجيم فيبحث في التأثير المزعوم للكواكب والأجرام السماوية على أقدار البشر ومصائرهم، وهو الجانب الأشهر في مثلث الحكمة الهرمسية والأكثر تداولاً بين الناس حتى يومنا هذا.
النص الثامن العشر
جميع ما ذكرناه حتى الآن عن النصوص الهرمسية موجودٌ في النصوص السبعة عشر المكتوبة باللغة اليونانية، أما النص الوحيد المكتوب بلغة المصريين القدماء، فهو منسوبٌ إلى الإله المصري "تحوت" إله الحكمة والمعرفة الذي اعتبره المصريون القدماء المعلم الأول، فهو من علمهم الحساب والكتابة وبقية فنون الحكمة والمعرفة، ولذلك تُظهره الرسومات المصرية القديمة ممسكاً بالقلم ولوح الكتابة، وهو يتشابه كثيراً مع صفات النبي إدريس المذكور في القرآن الكريم.
أهمية وتأثير الهرمسية
يمكن تلخيص دور الهرمسية وتأثيرها على البشرية في ثلاث نقاط، فالنقطة الأولى هي كون الهرمسية من أهم المؤثرات العلمية التي دفعت إلى النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، فقد أثّرت التعاليم الهرمسية ولاسيما ما يختص منها بعلوم العالم القديم على الكثير من الباحثين في مجالات العلوم الطبيعية، فولّدت لديهم ما يعرف بالنزعة العلمية الأوروبية.
|
الغوص في التاريخ بحثاً عن حقيقة هرمس والهرمسية تصميم الصورة وفاء المؤذن |
أدّت الهرمسية إلى ظهور عددٍ من الحركات والجمعيات والتنظيمات السرية، تزامناً مع بدء عصر النهضة، مثل حركة الصليب الوردي التي اتخذت رمزاً لها على شكل صليبٍ يمثل الجسد وفي منصفه وردةٌ تمثّل الروح، ما يعكس مبدأ المثنوية الهرمسية، وهناك أيضاً جماعة الفجر الذهبي التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي تميزت بهيكلٍ تنظيمي هرمي يسمح بانضمام النساء إليه في سابقةٍ غير مسبوقةٍ من الجمعيات والحركات السابقة، ومن أشهر الحركات السرية التي تأثّرت كثيراً بالهرمسية، حركة الماسونية، التي أخذت منها أفكار مثلث الحكمة، وفلسفة الكابالا الهرمسية التي تتحدث عن فهم بواطن الأمور والحقائق الكبرى، وهناك جماعات أخرى مشابهة لها مثل جماعة "ثيليما" وغيرها.
تأثير الهرمسية في الكتّاب المعاصرين
تأتي الأهمية الثالثة للهرمسية من تأثيرها الكبير في العديد من المؤلفين والكتاب المهتمين بمجال |الروحانيات|، ومن أشهر الكتب التي تحدّثت عن الهرمسية وفوائدها كتاب "|الفلسفة الهرمسية|" الذي تم نشره سنة 1908 من قبل ثلاثة أشخاصٍ مجهولي الهوية، أطلقوا على أنفسهم لقب المبتدئون الثلاثة، وقد احتوى ذلك الكتاب على سبعة فصولٍ تحدّث كل فصلٍ منها عن أحد مبادئ الوجود السبعة.
مبادئ الوجود السبعة
المبدأ الأول من |مبادئ الوجود السبعة| هو مبدأ العقلانية، بمعنى أن لكل شيءٍ في الوجود أساسٌ عقلي، فالفكرة تظهر أولاً في العقل ثم تتجسد في العالم المادي، والمبدأ الثاني هو مبدأ المطابقة، ويقوم على فكرة وحدة الوجود القائمة على مقولة "كما في الأعلى كذلك في الأسفل"، فبحسب الهرمسية توجد ثلاثة مستوياتٍ للوجود، هي المستوى العقلي والمستوى الروحي والمستوى المادي، وجميعها تؤثّر ببعضها البعض.
الاهتزاز والازدواجية والتناغم
المبدأ الثالث من مبادئ الوجود هو مبدأ الاهتزاز أو الحركة، بمعنى أن كل شيءٍ في الوجود متحركٌ ولا وجود لأي شيءٍ ثابت، أما المبدأ الرابع فهو مبدأ الازدواجية (القطبية الثنائية)، فلكل شيءٍ في الوجود قطبان أو وجهان، وكل شيءٍ يكون موجوداً وغير موجودٍ في نفس الوقت، أما المبدأ الخامس فهو مبدأ التناغم، وهو مرتبطٌ بمبدأ الازدواجية، فكل نقيضين في الوجود متناغمان مع بعضهما تماماً.
المبدآن السادس والسابع
المبدأ السادس هو مبدأ السبب والنتيجة، فلكل فعلً رد فعل، ولكل شيءٍ سبب، فلا شيء في الكون يحدث بشكلٍ اعتباطي، أما المبدأ السابع والأخير فهو مبدأ التنوع الجنسي، وهو يقول بأن كل شيءٍ في الوجود فيه جنسان هما الذكر والأنثى وهذا لا يقتصر على الكائنات الحية فقط بل على جميع الموجودات.
بعد كلِّ ما ذكرناه نرجو أن نكون قد نجحنا في تسليط بعض الضوء على الهرمسية وعلى شخصية هرمس الغامضة، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الباحثين يعتقدون بأن هرمس |شخصيةٌ اسطوريةٌ| غير موجودةٍ أصلاً، ولكن كتبة النصوص الهرمسية ابتكروها في القرن الثالث الميلادي ونسبوا إليها كلّ ما نعرفه عنها، فإذا كانت لديكم أفكارٌ أخرى حول هرمس، فنرجو أن تشاركونا بها وأن تنشروا المقال.
بقلمي: سليمان أبو طافش