|
لم تسمع به من قبل ولكنه أذكى رجل عاش على هذه الأرض فمن هو؟ تصميم الصورة : وفاء المؤذن |
الموضوع غريب بعض الشيء، فكيف بإمكان أحدهم تحديد من هو الأذكى على الإطلاق، في البداية يتبادر إلى أذهاننا علماء ومخترعين مروا على تاريخ البشرية، مثل |أنيشتاين| أو نيوتن أو دافنشي و غيرهم الكثير، لكن الشخص الذي سنتحدث عنه اليوم مختلف عنهم وغالباً لم تسمع عنه أبداً.
فمن هو هذا الرجل وماهي قصته؟
اسمه ويليام سايدس، و صنف بتقدير المختصين على أنه أذكى عقل بشري على هذا الكوكب، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هو غير معروف، والسبب أنه لم يقدم شيء خارق للبشرية، وذكائه الخارق كان محدود في كونه إنسان فائق القدرات العقلية من طفولته، ولكن حياته التعيسة لم تساعده على تقديم إنجازات، ولم يستغل هذا الذكاء لتقديم شيء يخدم البشرية.
ولكي نستوعب الفكرة أكثر كان عقل هذا الإنسان متفوق على عقل البشر، يكفي أن نعرف أن الخبراء قدروا ذكائه على مقياس الذكاء آي كيو ب ٣٠٠ نقطة، فالإنسان العادي يحصل على مجموع على ٨٥-١١٥ نقطة على مقياس الذكاء، ولتتضح الصورة تماماً، أينشتاين والذي يعتبر أشهر |عالم فيزياء| في التاريخ، قدر الخبراء ذكائه ب ١٩٠ نقطة على |مقياس الذكاء|، وهذا يعني أنه أعلى من الإنسان الطبيعي بمئة نقطة، أما ويليام أعلى من الإنسان الطبيعي بمئتين نقطة.
وبالطبع فإن مقياس الذكاء الآي كيو ليس هو المقياس المطلق للعقل، لأنه لا يقيس قدراتك الاجتماعية ومهاراتك الإبداعية، وهذا الأمر واضح في حياة ويليام بشكل كبير.
دعونا نتحدث عن حياته الأسرية قليلاً
فقد كان والداه وهما بوريس وسارة سايدس السبب الرئيسي في نبوغه وتطور قدراته العقلية منذ طفولته، فقد كان كلاهما مذهلين علمياً وكانوا أطباء، تعود أصولهم لأوكرانيا، ولكن بسبب الظروف والانحياز العرقي انتقلوا لأمريكا في عام ١٨٨٧، واستطاعوا بوقت قصير تعلم اللغة والاندماج مع الثقافة والمجتمع الأمريكي.
دخل بوريس سايدس |كلية الطب| وأصبح طبيب نفسي مشهور جداً، أما سارة سايدس أيضاً درست الطب وأصبحت طبيبة عامة، والتي دخلت كلية الطب عام ١٨٩٧، وفي ذلك الوقت لم يكن للنساء حقوق عامة، وكانت أول امرأة تحصل على شهادة الطب في التاريخ الأمريكي، وكان لديهم حب وشغف بالتعلم، وكان لديهم إيمان أن الإنسان قادر على تعلم أي شيء مهما كان عمره، إذا توفرت له الظروف والطرق المناسبة.
ومنذ أن كانت سارة تحمل طفلها في أحشائها، كانوا قد جهزوا خطةً لجعله شخص عبقري متفوق على أي إنسان آخر عقلياً، فاتفقوا على عدم إرساله للمدارس، فحسب رأيهم نظام التدريس فاشل، ويأخذ وقت أكثر من اللازم لتنمية عقل الطفل، فكانت خطتهم قد بنيت على أساس تنمية عقل طفلهم بشكل أسرع، وكان عبارة عن تجربة بالنسبة لهم، وكان لابد من نجاحها مهما كلف الأمر.
ماهي الخطة التي أنتجت شخص خارق الذكاء؟
فلماذا لم يستطيع ويليام أن يخدم البشرية بذكائه؟
|
لم تسمع به من قبل ولكنه أذكى رجل عاش على هذه الأرض فمن هو؟ تصميم الصورة : وفاء المؤذن |
نستطيع القول أن حياة ويليام التعيسة بدأت حتى قبل ولادته، فقد ولد ويليام عام ١٨٩٨، وبدأ والداه بتطبيق خطة تعليمية عالية الكفاءة من عامه الأول، وكانوا يريدون أن يجعلوا من هذا الطفل عبقري بأي ثمن كان.
وبالفعل عن طريق استخدام الأساليب التعليمية التي طورها والده، استطاع الطفل الرضيع أن يبدأ بتعلم الحروف في الأشهر الأولى في حياته، على عكس غيره من الأطفال، فتخيل عندما بلغ الست شهور، كان لديه القدرة على النطق ببعض الكلمات، وعندما بلغ الثمانية شهور كان لديه القدرة على الأكل لوحده باستخدام الملعقة بدون مساعدة من أحد. فهل هذا يصدق؟!
وكما كان واضح أن والداه كانوا فخورين بطفلهم، ولكنهم على ما يبدو كانوا فخورين أكثر بالأساليب والوسائل التعليمية والنفسية التي طورها الأب لتعليم ولده، وبدأ بنشر الأبحاث والوسائل والطرق التعليمية التي استخدمها مع ويليام، فمن الظاهر أنه كان عينة تجارب بالنسبة لهم، وراهنوا على نجاحها.
لم يعيش ويليام طفولته بالشكل الطبيعي والسليم
ولكن في المقابل كانت التجارب عليه ناجحة إلى أبعد حد، فعندما بلغ ويليام عامه الثاني، كان قادراً على قراءة جريدة |نيويورك تايمز| !! وكان يقرأ الصحف والجرائد، وكان قادراً على كتابة الرسائل باستخدام الآلة الكاتبة.
وإذا لم تصب بالذهول حتى الآن، لك أن تعلم أنه كان يكتب بلغتين الانكليزية والفرنسية! بالطبع لم يكن يكتب بطلاقة ولكن كان لديه علم ومعرفة. فما رأيك؟ و هل هو بالنسبة لك الطفل المعجزة؟
واستمر على نفس طرق وأساليب التعليم، وعندما بلغ عامه السادس، أصبح متقن لتسع لغات( الانكليزية، الفرنسية الألمانية، الروسية، اليونانية، العبرية، اللاتينية، التركية و الأرمنية)، وكان يتحدث بهذه اللغات بطلاقة، وكان سابق لأقرانه بسنين ضوئية، ويمكنك اعتباره قاموس متنقل.
ونجحت تجربة الأبوين سايدس نجاحاً باهراً
وكان والده مهووس بالتفاخر بولده أمام العالم، وجعل منه مادة إعلامية دسمة، وكان يتصدر عناوين الصحف والجرائد دائماً، وبدأت أبحاث سايدس تنتشر أكثر فأكثر في الوسط العلمي، وحتى بين عامة الناس.
وفي عمر الثمان سنوات، أخترع ويليام لغته الخاصة، فالواضح أنه لم يشعر بالاكتفاء رغم كل اللغات التي أتقنها، وأطلق على لغته اسم فندر غود، وألف عنها كتاب عام ١٩٠٥، فيمكننا اعتباره أصغر مؤلف ومخترع، لغة كاملة لها حروفها وأرقامها وقوانينها.
فكانت عبقريته تعتبر طفرة ليس لها مثيل في العالم، ولهذا تم قبوله في |جامعة هارفارد| وهو في عمر التسع سنوات، فقد استطاع تجاوز امتحان القبول، في جامعة تعتبر من أعرق وأكبر جامعات العالم إلى يومنا هذا، ولكن إدارة الجامعة قررت بعد النقاش والبحث، أن ويليام لن يكون مستعد نفسياً لحياة الجامعة والدراسة فيها، فقاموا بتأجيل دخوله لجامعة حتى بلغ الحادية عشر، وتم قبوله في الجامعة، وكان أصغر طالب.
وقد أثبت خلال تواجده بالجامعة، أنه ليس فقط مؤهل للدراسة فيها، بل أثبت أنه أكثر ذكاءً من أساتذته، حتى أنه كان في بعض الأحيان يقدم محاضرات في نادي الرياضيات، ويعطيهم محاضرات عن مواضيع معقدة مثل الأجسام رباعية الأبعاد، وكان مئات من الناس يتهافتون لحضور هذه المحاضرات، وفي أغلب الأحيان لم يكن يعنيهم محتوى المحاضرة أو القيمة العلمية للموضوع المطروح فيها، بقدر ما يعنيهم رؤية هذا الطفل النابغة الذي تجاوز حدود العقل بذكائه.
وتخرج ويليام من جامعة هارفارد، وكان عمره ستة عشر عاماً، وأصبح أصغر بروفسور في التاريخ، وأصبح يدرس الرياضيات في جامعة في تكساس، وكان الوضع غريب جداً، ولك تخيل كيف أن طلابه أكبر منه عمراً.
وكل هذه الإنجازات التي حققها ويليام سايدس في عمره الصغير، جذبت ولفتت انتباه الدولة بأكملها، وأصبح اسمه يتصدر عناوين الصحف الكبرى، واعتُبر طفرة ثقافية في ذلك الوقت، شخص وحالة استثنائية لم يُرى لها مثيل من قبل.
فلماذا لم تتكلل حياته بالنجاح والشهرة؟
|
لم تسمع به من قبل ولكنه أذكى رجل عاش على هذه الأرض فمن هو؟ تصميم الصورة : وفاء المؤذن |
كما تحدثنا سابقاً، كيف أن ويليام كان يعتبر معجزة في ذلك الوقت، وتصدر حديث الصحف والعامة، وكان هذا الأمر مصدر فخر لوالده الذي كرس كل جهوده ليكون ولده نابغةً في زمانه.
والمشكلة التي واجهت ويليام بالرغم من ذكائه وعبقريته، أن مهاراته الاجتماعية كانت ضعيفة جداً، فنموه العاطفي والاجتماعي لا يتوازن مع نموه العقلي، والذي أدى لانعزاله عن العالم والناس.
وقد قال في إحدى المقابلات التي أجراها مع إحدى الصحف( أريد أن أعيش الحياة المثالية، والطريقة الصحيحة لكي يعيش الشخص الحياة المثالية، هي أن يعيشها بعزلة، فدائماً ماكنت أكره الحشود). وهذا الكلام إن دل على شيء فهو يدل على مشاكل نفسية تعرض لها.
وبالفعل قدم استقالته من وظيفته كبروفسور ومدرس في الجامعة
واختفى عن العالم لسنوات، لأن الضغوط التي تعرض لها كانت كبيرة جداً، والواضح أنه لم يستطع تحملها، فالضغوط الذي سببها له والداه من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، والمشاكل التي تعرض لها بسبب مهاراته الاجتماعية والعاطفية الضعيفة، كل ذلك سّبب له حالة من الخوف والرهبة، بسبب شعوره بعدم الانتماء لمن حوله، مما جعله يبتعد عن العالم.
وبالفعل اختفى ويليام وكأنه لم يكن، ولم يعرف أحد عنه شيئاً إلا بعد مرور أربع سنوات، وبالتحديد في عام ١٩١٩، وذلك لأنه تم اعتقاله بسبب مظاهرات شارك فيها، والتي تورط فيها على ما يبدو بسبب فتاة وقع في حبها، ودخل السجن بسبب أمور كان في غنى عنها، وحكم عليه بالسجن ثمانية عشر شهراً، وتحديداً عندما كان عمره واحد وعشرون عاماً.
وعند خروجه من السجن
قرر أن يستمر في عزلته ليس فقط في الابتعاد عن الناس من حوله، بل قرر أن يغير هويته ويمسح ماضيه ويترك كل شيء وراءه حتى والديه. وبدأ ينتقل من مدينة لأخرى، وفي كل مدينة يطلق على نفسه اسم جديد، وفي كل مرة كان يبدأ حياة جديدة.
وخلال هذه السنوات ألف العديد من الكتب
وكان قد قام بنشرها بأسماء مختلفة عن اسمه الحقيقي، فكان من الصعب تحديد عدد الكتب التي كتبها إلا ماقل، وكانت مجالاتها متنوعة علم الكون، |علم الأنسان|، التاريخ الأمريكي، و أنظمة المواصلات. وكانت بعض الكتب غريبة في مضمونها، فمثلاً كتاب بعنوان تذاكر عربات الشارع( عربات تشبه القطار)، ولسبباً ما كان مهووس بتجميع تذاكر هذه العربات لدرجة أنه ألف كتاب عنها، وشرح تفاصيل غريبة جداً وليست ذو أهمية.
وبالرغم من أن عدد كتبه كان لا يستهان به، إلا أنها لم تُضف شيئاً للبشرية، فكان هو وأعماله منسيين تاريخياً، والواضح أنه لم يكن مهتم كثيراً برأي الناس عنه، لذلك كان يحب أن يعيش بعيداً عن عيون الناس، ولكن الناس لم يدعوه وشأنه.
وفي عام ١٩٣٧، إحدى الصحفيات التي كانت تعمل في جريدة تسمى ذا نيو وكر، قررت أن تتبع ويليام وتضع اسمه في فقرة أين هم الآن، مختصة بالحديث عن أشخاص كانوا مشهورين في وقت ما، ثم اختفوا عن الأنظار، وتحاول معرفة كيف أصبحت حياتهم.
واستطاعت هذه الصحفية بالتقرب من ويليام، وعلى ما يبدو أنها أغرته بجاذبيتها الأنثوية، فأخبرها عن تفاصيل حياته الشخصية، وأخبرها عن مشاكله ونقاط ضعفه وكيف أنه في كثير من الأحيان كان يبكي من الضغوط الهائلة التي تواجهه.
ومن خلال هذه المعلومات التي استطاعت أن تحصل عليها بأسلوب خبيث وغير أخلاقي، نشرت مقال عنه، تكلمت فيه عن كل ما أخبرها به على افتراض أنه سيبقى سر بينه وبينها.
ووصفت في هذا المقال كيف وقع ويليام العبقري من مكانته العالية، وكيف ضيع كل الإمكانيات التي كانت متاحة له، ونشرت هذه التفاصيل بأسلوب مهين وقاسي جداً.
وكان عمره في ذلك الوقت٣٩عاماً، وكان يعيش في عزلته مرتاحاً بعيداً عن كلام الناس، ولكن هذا المقال هز حياته مرة أخرى.
ومن شدة الغضب الذي اعتراه
قام برفع قضية على الصحفية، ووصلت قضيته للمحكمة العليا، ولكن للأسف، بالرغم مز أن القاضي أعرب عن تعاطفه معه، لكنه حكمه كان أن ويليام يعتبر شخصية عامة ومن حق الصحافة أن تتحدث عنه، وهذا لا يعتبر خرقاً لخصوصيته.
وبعد خسارته لهذه القضية، ساءت حالته النفسية وبقي مستمراً في عزلته، حتى عام ١٩٤٤ حيث وجد مستلقياً على الأرض في شقته الصغيرة وكان قد فارق الحياة، بعد تعرضه لخثرة بسبب نزيف دماغي، وعمره ٤٦عاماً وكانت نهايته محزنة جداً.
وهكذا عاش ويليام حياته بتعاسة وحزن بسبب الضغوط التي تعرض لها من عائلته، فالقدرة الذي من المفروض أن تكون نعمة تحولت لنقمة بسبب قرارات خاطئة.
والواضح أن سبب فشله في حياته هو عدم أخذه حقه من الرعاية والاهتمام كأي طفل عادي، بل تعرض لضغوط من والديه ليكون تجربة أبحاثهم الناجحة.
فيجب أن نهتم بالجانب الإنساني والعاطفي قبل أن نهتم بجانب القدرات العقلية، فمن الخاطئ التعامل مع العقل على أنه مجرد آلة.
تهاني الشويكي