|
قصة رجلٍ عاد من حافة الهلاك إلى قمة المجد تصميم الصورة : ريم أبو فخر |
هل وصلت يوماً إلى حالةٍ من الإفلاس أجبرتك على بيع محتويات منزلك لكي تؤمّن حاجات عائلتك اليومية؟ ووهل أصابك فقرٌ مدقعً بعد أن كنت تستمتع برغد العيش؟
ربما تكون إجابة الكثيرين هي نعم، ولكن من استطاع النهوض مجدداً واستطاع استعادة أمجاده من جديد؟
هذه قصة رجلٍ نهض من تحت الأنقاض، وعاد إلى مجده بعد معاناةٍ طويلة مع الفقر والحاجة.
بداية الرحلة
ولد "هنري جون هاينز" سنة 1844، لعائلةٍ ألمانيةٍ هاجرت إلى |الولايات المتحدة الأمريكية|، خوفاً من الحروب والأوضاع السياسية في أوروبا، وبحثاً عن حياةٍ أفضل، وكان منذ صغره مهووساً بالحفاظ على كل شيء، فعدوّه اللدود كان هو الهدر، فكان في صغره يأخذ من مزرعة أهله بقايا الخضار ويبيعها لجيرانه كي لا يتم رميها، وعندما لاحظ والداه ذلك أرادا تشجيعه، فمنحاه جزءً من أرض مزرعتهما لكي يزرعها ويبيع محصولها.
التخطيط أساس النجاح
استمر هنري بذلك العمل إلى جانب دراسته حتى بلغ السادسة عشرة، فترك المدرسة وتفرّغ للعمل في مزرعته الصغيرة، فقد كان حلمه هو تنمية عمله في |المنتجات الزراعية|، وإنشاء شركةٍ كبيرةٍ ضمن هذا المجال، ولكي يكتسب الخبرة اللازمة لذلك، فقد اشتغل مع والده في معمله الصغير، حتى أتقن لعبة الحسابات والإدارة، كما انضم إلى أحد معاهد الأعمال لكي يتدرب أكثر ويستوعب العمل بطريقة علمية.
الهمة والنشاط من أركان النجاح أيضاً
كان يوم هنري حافلاً جداً، فكان يستيقظ قبل الفجر لكي يعمل في أرضه، ثم يذهب إلى معمل والده حتى العصر، وفي المساء كان يثابر على الدراسة والتدريب في معهد الأعمال، وفي ذلك الوقت كانت الزراعة هي عماد الحياة والاقتصاد، ومن أعمال التجارة الرائجة آنذاك، كانت تجارة المخلّلات بمختلف أصنافها، فراح "هنري" يزرع الخضار ويخللها ويبيعها، واستمر بذلك العمل حتى عام 1861.
الشركة الجديدة
عندما أصبح هنري في سن السابعة عشرة كان يمتلك مبلغاً يتجاوز 2400 دولار، وهي تعادل 70000 دولار في وقتنا الحالي تقريباً، وقد استمر بعمله وزيادة أرباحه حتى سنة 1869، فشارك أحد أصدقائه "كلارينس نوبل" في عمله، فتوسّع العمل وأصبح لدي الشريكين عدة مصانع لإنتاج المخلّلات، والخضروات المعلبة، كما توسّعت الأرض التي يمتلكانها، وعندما تزوج هنري وأنجب طفلاً فقد أطلق عليه اسم صديقه "كلارينس" لشدة وفائه لصديقه.
الرخاء لا يدوم أبداً
مع توسّع عمل هنري وشركته، أصبح محلَّ ثقةٍ من البنوك، فحصل على بعض القروض، وقد كانت انطلاقته السريعة تستدعي اهتمام الصحافة والاعلام، لأنه أنشأ شركةً ونمّاها خلال فترةٍ قصيرةٍ وهولا يزال شاباً صغيراً، ولكن فترة الرغد والنماء لم تستمر طويلاً، فبعد عدة سنواتٍ فقط، وفي سنة 1873، اجتاحت الولايات المتحدة أزمةٌ اقتصاديةٌ خانقة، فبدأت الشركات تنهار تباعاً، ولم تكن شركة "هاينز" استثناءً، فسرعان ما انهارت.
|
قصة رجلٍ عاد من حافة الهلاك إلى قمة المجد تصميم الصورة : ريم أبو فخر |
المزيد من خيبات الأمل
لم يستطع هنري تجاوز تلك الأزمة، خاصةً تحت ضغط البنوك والديون الكثيرة التي أرهقت كاهله، فاضطر في سنة 1875 إلى إشهار إفلاسه، وبيع كل ممتلكاته بما فيها أثاث منزله، وهذا وضعه في أزمةٍ نفسيةٍ حادة، ولم يجد من يقف معه، فحتى شريكه وصديقه ورفيق رحلته "كلاريس" تخلّى عنه، فمع أن "كلاريس" كان ثرياً، إلا أنه رفض مساعدة صديقه، ولم يكتفِ بذلك فقط، بل أطلق عنه بعض الشائعات يتهمه فيها بسرقة أموال الشركة.
العائلة المتحابة تنقذ الموقف
بعد عدة شهورٍ من |الاكتئاب| والقلق والحالة النفسية والمادية المزرية، استطاع هنري التقاط أنفاسه وجمع شتات أفكاره ولملمة عزيمته من جديد، وذلك بفضل عائلته بشكلٍ خاص، فقد اجتمعت العائلة حوله، وبعد نقاشٍ طويل، اجتمعت الآراء حول ضرورة إنشاء شركةٍ جيدة، ولكن ذلك يتطلب أموالاً، والعائلة لا تمتلك شيئاَ، باستثناء زوجته التي احتفظت بما ورثته من أهلها، فباعت ممتلكاتها وقدّمت ثمنها إلى هنري لكي ينطلق من جديد.
المزيد من المواقف العائلية المشجعة
إضافةً إلى المبلغ الذي قدمته زوجة هنري، فقد ساهم كلٌّ من شقيقه وابن عمه بثمن حصتهما من بعض الأسهم والاستثمارات، فوصل مجموع المبالغ المجموعة إلى 2200 دولار، كما قررت العائلة العمل بالأرض بنفسها لتوفير أجور العمّال، وبذلك اكتملت مقومات الشركة الجديدة، ولكن هنري أراد منتجاً جديداً يضمن له انطلاق الشركة بسرعة، خاصةً عندما أخذ عهداً على نفسه بتسديد جميع ديونه.
صناعة الكاتشاب هي الحل
لم تكن |صناعة الكاتشاب| جديدةً على العالم، فقد عرفتها الصين منذ مئات السنين، ولكنهم كانوا يصنعونه من السمك مع خلطةٍ خاصة، وفي القرن الثامن عشر وصل الكاتشاب الصيني إلى بريطانيا، فأصبحت بريطانيا تصنّعه وتصدّره إلى الولايات المتحدة، ثم تنوّعت وصفات صنع الكاتشاب باستخدام موادٍ مختلفة، أما صناعة الكاتشاب من البندورة فلم تظهر حتى سنة 1836.
العودة من جديد
أراد "هاينز" أن يبدأ بتصنيع الكاتشاب من البندورة، معتمداً على خبرة والدته في ذلك، فأخذ منها وصفتها وأضاف عليها حتى أصبحت لديه وصفته الخاصة التي تحتوي على الخل والسكر، وهذا ما سمح بزيادة فترة صلاحية الكاتشاب سريع العطب، كما أعطاه نكهةً أفضل، وبذلك انطلقت شركة "هاينز" من جديد ببيع الكاتشاب كمنتجٍ رئيسي، بجانب المنتجات التقليدية التي كانت تنتجها من قبل.
الوفاء بالالتزامات القديمة
في نهاية سنة 1876، كانت شركة هاينز قد انطلقت من جديد واستعادت مكانتها في الأسواق، فقد كانت أرباحها كبيرةً تصل إلى 40%، ما جعل وارداتها السنوية تصل إلى 44000 دولار، ومع انتشار| السكك الحديدية| في الولايات المتحدة، راح هنري يسافر إلى مختلف الولايات والمدن الأمريكية للترويج لمنتجاته، وبذلك استطاع تسديد كافة ديونه القديمة خلال بضع سنواتٍ فقط.
الانطلاق نحو العالمية
كان "هاينز" يعمل يومياً لست عشرة ساعة، ولكن شقيقه وابن عمه لم يكترثا كثيراً للعمل، فاختلف هنري معهما، ما دفعهما إلى بيع حصتهما من الشركة، فاشتراها هنري وأصبحت الشركة ملكاً له ولزوجته، فأعاد تسميتها لتصبح شركة "هنري هاينز"، ومع استقرار العمل وتحسّن أوضاع الشركة، ذهب هنري إلى ألمانيا لزيارة أقاربه، وأخذ معه بعض العيّنات من منتجات شركته.
|
قصة رجلٍ عاد من حافة الهلاك إلى قمة المجد تصميم الصورة : ريم أبو فخر |
اكتساب المزيد من المعارف والخبرات
كانت المحطة الأولى لهنري في أوروبا هي بريطانيا، فعرض منتجاته في إحدى الشركات التي أُعجبت بها وقرّرت التعامل مع شركته واستيراد منتجاتها، وسرعان ما انتشرت منتجات شركة هنري في بريطانيا، ولاسيما الكاتشاب الذي لاقى رواجاً كبيراً بين البريطانيين، وعندما وصل هنري إلى ألمانيا وبعد زيارة أقاربه، قام بجولةٍ حول المصانع الألمانية التي أدهشته بتطوّرها وخاصةً طريقة إدارتها المختلفة عمّا يعرفه في أمريكا.
الانطلاق بأفكارٍ ورؤى مختلفة
عندما عاد هنري إلى الولايات المتحدة، كان يحمل في رأسه الكثير من المفاهيم الجديدة، فأنشأ مصنعاً جديداً، وأنشأ فيه قاعةً ليتناول فيها العمّال طعام الغداء، فقد أدرك ضرورة احترام العامل الذي يشكّل أساس مصنعه، كما بدأ يتقارب مع العمال، ويدعوهم لتناول العشاء في منزله أحياناً، ثم بدأ بتوظيف الأطباء في مصنعه، لكي يهتموا برعاية العمّال صحياً، ثم أنشأ قاعةً للموسيقى وقاعةً للمحاضرات لتنمية مهارات العمّال.
الاهتمام أكثر بحياة العمّال
لم يكتفِ هنري بكل ما قدّمه للعمّال، بل اهتم بتعليمهم أيضاً، وخاصةً العمّال المهاجرين الذين لا يتقنون |اللغة الانكليزية|، ثم أنشأ مدارس خاصة بأبناء العمال، فكان من أوائل رجال الأعمال اللذين انتبهوا إلى أن نجاح مصنعه واستمراره مرهونٌ بالحالة الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية للعمّال، فهم قوام المصنع الأساسي.
أفكار رائدة في التسويق
ظهرت عبقرية "هاينز" في عمله من عدة مجالات، ولكن خططه التسويقية والإعلامية كانت متميزة، فقد استخدم العبوات الزجاجية الشفافة، لكي يرى الناس محتوياتها وخلوّها من العيوب، كما سمح لعامّة الناس بدخول المصنع لكي يرووا بأنفسهم كيف يتم الإنتاج، وهذا طبعاً ساهم في زيادة ثقة الناس بمنتجات شركة "هاينز".
شعار الشركة الجديد
في سنة 1893، أُقيم معرضٌ كبيرٌ في الولايات المتحدة، شارك فيه هاينز، ولم يكتفِ بعرض منتجاته فقط، بل صنع دبوساً على شكل شعار شركة "هاينز" (حبة خيارٍ مخلّلة)، وقام بتوزيعه على زوّار المعرض، وفي سنة 1896، أطلق هنري شعاراً جديداً لشركته هو رقم 57، وهو يدل على عدد منتجات شركته، ولا زال هذا الرقم موجوداً على جميع منتجات هاينز حتى اليوم مع أن منتجاتها أصبحت بالآلاف.
مواكبة الأساليب الحديثة
إضافةً لكل إبداعات "هاينز" وأساليبه المبتكرة في |الدعاية والإعلان| لمنتجاته، فقد كان من أوائل الذين استخدموا اللافتات المضاءة في شوارع الولايات المتحدة، وفي محطات الحافلات والقطارات ومختلف الأماكن، ورغم أن هذه الأساليب قد لا تبدو متميزةً اليوم، إلا أنها كانت رائدةً ومبتكرة في تلك الأيام.
مساهمات إنسانية جديدة
لم يكتفٍ "هنري هاينز" بكل ما قدمه، بل شارك قبل وفاته بوضع الأسس والقوانين التي تضمن نقاء الغذاء وسلامته، خاصةً بعد انتشار استخدام المواد الكيميائية كموادٍ حافظةٍ أو كملونات، ففي سنة 1906، ظهر كتابٌ يفضح الممارسات غير الصحيّة في مختلف المصانع الأمريكية للأغذية، فتدخل الرئيس الأمريكي "روزفلت" ووقّع على مجموعةٍ من قوانين ضمان وسلامة الغذاء المصنّع التي شارك هنري في وضعها.
استمر هنري بالصعود بشركته حتى سنة 1919، عندما أصيب بالمرض الذي أدى إلى وفاته عن عمر يناهز أربعةً وسبعين عاماً، بعد أن أصبح من أثرياء العالم، ولكن شركته لا زالت قائمةً حتى الآن وأصبحت تنتج أكثر من ستة آلاف منتجٍ مختلف، فإذا وجدت في قصة "هنري جون هاينز" ما يستحق النشر فشارك المقالة مع أصدقائك.
سليمان أبو طافش